الجلسات النفسية: ضرورية لتهزم يأسك المظلم!

الجلسات النفسية: ضرورية لتهزم يأسك المظلم!
عند عتبة العيادة النفسية، لم تكن تلك مجرد خطوة، بل كانت قفزة جريئة في غياهب المجهول؛ قفزة من عالمٍ غلّفه اليأس إلى فجرٍ خافت يلوح في الأفق. كانت تلك بداية رحلة علاجٍ لم أكن لأتخيل وجودها، بل كانت بمثابة تدشين لصفحة جديدة، وعهدٍ مختلفٍ تماماً في حياتي. يا ليتني اتخذت هذه الخطوة منذ سنواتٍ خلت، يا ليتني عرفت مبكراً كيف يمكن لـ الجلسات النفسية أن تبدد غيوم الهم والغم التي خنقتني طويلاً، وحجبت عن ناظريّ سماء الحياة.
في تلك الليلة التي سبقت زيارتي الأولى، لم يغمض لي جفن. لكن هذا السهر المضني لم يكن جديداً؛ فقد كنت في سباتٍ عميقٍ يشبه الموت لأشهر طوال قبلها، ليلاً ونهاراً، متسمراً في فراشٍ صار وكأنه قبري الشخصي، شاهدٌ صامتٌ على انهياري. كانت المشاعر تتصارع داخلي كأمواجٍ عاتيةٍ تضرب صخرةً وحيدة: الخوف يشدني بقوة نحو قاعٍ مظلم، بينما يداعبه وميضٌ خفيف من الفرح، والتوجس يهمس في أذني بأنه قد يكون وهماً، لكن شعوراً طاغياً بقرب نهاية النفق الذي اعتنقته روحي كان يمنحني بصيص أملٍ يكاد لا يُرى. تساءلتُ بحيرةٍ ووجعٍ عميقين: هل سأنجو من هذا الكهف الأسود الذي استحوذ على كياني؟ ما هي تلك العصا السحرية التي ستنقذني؟ هل هي حبة دواء سأبتلعها، أم مجرد كلماتٍ قليلة يتفوه بها ذلك الطبيب؟ لنرَ ما عنده.
في جوهري كنتُ مدمراً، محترقاً من الداخل، فمن أين سأجد الكلمات لأبدأ بها؟ هل ما سأقوله سيكون سخيفاً في نظره؟ ولماذا أصبحت الجلسات النفسية ضرورة قصوى إلى هذا الحد؟ لقد كنت أعاني من ضيقٍ شديدٍ قيّدني وشلّ حركتي تماماً، أبقاني في الفراش عاجزاً عن أداء أبسط الأنشطة اليومية، بل وحتى عن أداء واجباتي الأساسية كإنسان. صار أي حديثٍ أو لقاءٍ مع أي شخصٍ عبئاً لا يُطاق، يُستنزف طاقتي الهشة. من حولي ملّوا مني، ملّوا من يأسي ومللي وحزني العميق. سخروا من ألمي في بعض الأحيان، واتهموني بالخروج عن الملة في أحيانٍ أخرى، قائلين ببرودٍ جارح: المؤمن لا ييأس، فكل هذا اليأس يعني أن إيمانك ضعيف. فشعرتُ بالذنب العميق، وهمستُ لنفسي بوهن: أنا لا أعرف الإيمان إذًا. تهافتت عليّ الاتهامات بأنني مسحورٌ أو ممسوسٌ، أحضروا لي المشايخ والمشعوذين، فلم يزدني ذلك إلا ألماً وبؤساً فوق بؤسي.
لقد أضعت موعد اختباراتي للمرة الثالثة في كليتي، كلية الهندسة التي كانت يوماً حلماً براقاً. تخرج أصدقائي هذه السنة وبدأوا بتحقيق أحلامهم وطموحاتهم، بينما أنا ما زلتُ أتقوقع في سنتي الثانية، أرى أحلامي تتبدد شيئاً فشيئاً، بل أرى فشلي الذريع محفوراً في منامي، وفي مستقبلي المظلم الذي لا أرى له نهاية. من أين يأتي الناس بالطاقة والنشاط كل صباح ليذهبوا إلى أعمالهم ومسؤولياتهم الرتيبة؟ ألا يملون؟ ألا يتعبون؟ ثم ماذا بعد كل هذا الجهد الدؤوب والعمل المستمر إلا الموت المحقق؟ أهذه هي الحياة التي نتصارع من أجلها؟ لماذا لا نختصرها ونرتاح من عنائها؟ لقد صرت أتمنى الموت والخلاص من حياتي التي لا حياة فيها، أرى نفسي ميتاً على هامشها، عبئاً عليها، عبئاً على كل من حولي. هل كل هذا يكفي لأذهب للطبيب؟ ترى ما ردة فعله، هل سأبدو له شخصاً سخيفاً يتباكى على لا شيء؟
الساعة السابعة، لقد اقترب موعد الجلسة. قمت مسرعاً على غير عادتي، رتبت غرفتي وسريري الذي ملّ من استلقائي عليه منذ أشهر (وكأنها سنوات). ظللت واقفاً أبدل في ثيابي التي أصبحت كبيرة عليّ، نعم، فقدت جزءاً لا بأس به من وزني؛ فاليأس كان يأكلني من الداخل والخارج.
الجلسات النفسية: بداية الوعي والشفاء
كانت تلك أول وأجمل زيارة لي لهذا المكان الجديد؛ العيادة النفسية. في هذا الملجأ الآمن، علمت أشياء كثيرة عن اضطرابي لم أكن لأفهمها بمفردي، يا ليتني كنت أعلمها من قبل، لسهّل عليّ الكثير من المعاناة والخيبة. علمت أنني لست أفكاري؛ أنا منفصل عنها، وأن الأفكار السلبية هي مجرد ضيوف يمكنني أن أقرر عدم إيوائهم. علمت أنه لا داعي أبداً لأن أعيش مع معاناتي كل هذه المدة القاسية في ظل وجود علاجٍ فعالٍ لها. علمت أن كل تلك المشاعر والأفكار المؤلمة والمعاناة التي عصفت بكياني كان أساسها الاكتئاب. أدركت حينها أن الاكتئاب اضطرابٌ حقيقيٌ يحتاج لعلاجٍ متخصص، وأنه يصيب كل البشر على اختلاف مشاربهم، فكلنا معرضون له، ولا دخل له بقوة الإيمان أو ضعفه كما كنتُ أُتهم. علمت أن ما مررت به لم يكن ضعفاً مني أو قلة صبر، بل كان مرضاً يتطلب استشارة متخصصة وعلاجاً منهجياً.
الجلسات النفسية: أدوات عملية للتعافي والحياة
مع مرور الجلسات النفسية، لم أجد فقط آذاناً صاغية، بل تعلمت طرقاً وتقنياتٍ عمليةً وملموسة أخرجتني تدريجياً من الظلام الدامس الذي اعتدته. كانت تلك التقنيات بمثابة حبالٍ مدّت لي في قاع البئر، لأتسلقها خطوة بخطوة. قد يستغرب البعض، ولكن نعم، أنا ممتن للاكتئاب. بفضله، خضت تجربة لم تشفني منه فحسب، بل كانت تجربة أعمق بكثير. عرفتني من أنا حقاً، وماذا أريد في هذه الحياة، وما هي قيمي ومبادئي. منحتني هذه التجربة بعداً أعمق عن نفسي، عن الحياة بكل تعقيداتها وجمالها، وعمن حولي. أصلحت فيّ كل شيءٍ عالقٍ، كل شيءٍ غير مفهوم. علمتني كيف أعيش بوعيٍ وحضور، كيف أقدر نفسي وأحتفي بها، كيف أستغل نقاط قوتي وأنميها لتصبح مصدراً لإلهامي، وكيف أرحم ضعفي وأتقبله كجزءٍ لا يتجزأ من إنسانيتي. علمتني هذه التجربة كيفية التحرر من قيود فكري السلبية، فالاكتئاب ليس إلا أفكاراً بائسة سلبية تقيدك وتجعلك جثة هامدة في معترك الحياة، هو قيدٌ للفكر والقلب معاً يمنعك من الانطلاق.
في العيادة، وجدت ملاذاً من الأحكام، وجدت الراحة والأمان؛ فلا أحد يحكم عليك أو على أفعالك أو خياراتك، مهما كانت أهدافك أو مشاعرك، جميعها تُعتبر مهمة وتؤخذ بعين الاعتبار والتقدير. هذا الشعور بالقبول غير المشروط كان بلسماً لروحي المتعبة.
بعد تلك الرحلة العظيمة التي استمرت أشهراً، رحلة مليئة بالصعود والهبوط، نعم، وجدت جواباً عن سؤالي الأول: نجوت من ذلك الكهف الأسود. لكن ليس بالعصا السحرية التي تخيلتها في لحظات يأسي، بل نجوت بإرادتي الصلبة وإصراري على الحياة، وبمساعدة الطبيب الذي كان شريكاً أصيلاً وموجهاً حكيماً في هذه المسيرة الشاقة. كلانا تعبنا وخضنا الجلسات النفسية التي كان فيها الألم والأمل يتجاوران، والضحك والبكاء يتعاقبان، لكن ما أجمل ذلك الألم الذي يرفعك وينقذك من براثن اليأس، خاصة بعد الألم الخانق الذي شعرت معه أنك لن تنجو منه أبداً في حياتك. لم تكن الجلسات النفسية مجرد علاج لأعراض، بل كانت خلاصاً فعالاً من اليأس، ونافذة مشرقة تُطل على حياة أكثر وعياً وسلماً داخلياً يمتد ليشمل كل جوانب الوجود.
تم كتابة هذه المقالة بواسطة: الأخصائية رنيم المالح
احجز جلستك الآن.